الموسيقى الصوفية والموال من قلب الصعيد إلى العالمية
كلما تعمقنا في التراث، اكتشفنا وجوهًا جديدة وأصواتًا غير متوقعة، وربما فنانين لو أُتيح لهم الانتشار خارج الحدود، لكانوا قادرين على إحداث تحولات في مسار الموسيقى.
من بين الألوان الموسيقى المصرية، يظل الإنشاد الصوفي والموال من أكثر الأنماط عمقًا وتأثيرًا، لما يحملوه من أبعاد روحانية وجمالية تجمع بين الكلمة والمقام والصوت البشري في حالة قادرة على بثّ السكينة والتجلي في نفوس المستمعين.
فقد انطلق هذا الفن من الساحات الشعبية والموالد في القرى والنجوع، خصوصًا في صعيد مصر، ليصبح بمرور الوقت لغة موسيقية عالمية تصل إلى جمهور لا يتحدث العربية، لكنه يتأثر بصدق الأداء وصفاء الروح.
لقد كان الإخلاص للمحلية هو المدخل إلى العالمية؛ فالإنشاد الصوفي والموال الصعيدي، تحوّلا إلى حالة موسيقية ألهمت فنانين غربيين، ووصلت إلى أكبر المهرجانات والمسارح في أوروبا وأمريكا اللاتينية، لتصبح جسرًا بين الشرق والغرب.
رموز الفنانين في الصعيد:
أحمد التوني – سلطان المنشدين
وُلد في منفلوط، أسيوط، ولُقّب بـ"ساقي الأرواح".
اعتمد على قوة الكلمة والارتجال أكثر من التلحين، وبدأ مسيرته من دون آلات موسيقية قبل أن يُكوّن فرقة بسيطة تضم الرق والناي والكمان.
استلهم كلماته من كبار المتصوفة مثل ابن الفارض والحلاج، وكان ينشد لساعات طويلة في الموالد الكبرى. شارك في مهرجانات دولية بأوروبا وأمريكا اللاتينية، وظهر مع فرق عالمية في الفيلم الموسيقي “فينجو” الذي حاز جائزة "سيزار" في فرنسا.
أحمد برين – الصوت الجهوري
من مواليد أسوان، وُلد كفيف البصر لكنه عوّض ذلك بذاكرة قوية وصوت مؤثر.
استقر في الأقصر واشتهر بإنشاده باللهجة الصعيدية وبكونه راويًا للسير الشعبية.
جمع في أدائه بين المديح النبوي والموال الشعبي وحتى الإنشاد القبطي. ومن أبرز أعماله: يا حمام بتنوح ليه، فرش وغطا، ومدد يا مدد.
وقد ارتبط اسمه لاحقًا بتتر مسلسل "واحة الغروب" بأداء الفنان وائل الفشني.
ياسين التهامي – شيخ المنشدين
وُلد عام 1949 في قرية الحواتكة بأسيوط، وبدأ مشواره في سبعينيات القرن الماضي عبر الموالد الشعبية، معتمدًا على الارتجال وإنشاد قصائد ابن عربي والحلاج وابن الفارض.
انتقل من ساحات الموالد إلى المسارح الكبرى، وشارك في مهرجانات عالمية في أوروبا وأفريقيا وآسيا، حتى أصبح رمزًا عالميًا للإنشاد الصوفي وملهمًا لأجيال كاملة من المنشدين.
أمين الدشناوي – ريحانة المداحين
من دشنا في قنا، وُلد عام 1960. بدأ الإنشاد وهو طفل أمام عمال مصنع السكر، وتعلّم على يد الشيخ أحمد أبو الحسن.
امتاز بصوت قوي ودافئ، وكان يعتمد على الارتجال.
شارك في مهرجانات بفرنسا والسويد والسعودية، وكان أول منشد عربي يقف على مسرح "شاتليه" في باريس بعد أم كلثوم.
لُقّب بـ"مداح العصر"، وكان صوته يستدعى في جلسات الصلح القبلية لقدرته على تهدئة النفوس.
عليوة ثابت – مداح الرسول
وُلد عام 1959 في أسيوط، وبدأ حياته مطربًا قبل أن يتحول إلى الإنشاد بعد حادثة دفعته إلى اعتزال الغناء التجاري.
اعتمد على النصوص الصوفية لكبار المتصوفة، وكون فرقة إنشاد خاصة به.
من أبرز أناشيده: حب النبي، قلبي إلى الحبيب، وأكاد من فرط الجمال أذوب.
أحيا حفلات في فرنسا على مسرح معهد العالم العربي في باريس، مثبتًا أن الإنشاد الصوفي قادر على ملء المسارح العالمية.
الشيخ زين محمود
واحد من أبرز أصوات الإنشاد الصوفي والغناء الشعبي في مصر. وُلد في المنيا ونشأ في بيت متأثر بالتصوف، فبدأ حياته بحفظ القرآن وتعلّم التلاوة، ثم انطلق إلى عالم الفن عبر المسرح، قبل أن ينضم لفرقة “الورشة” مطلع التسعينيات.
قدّم زين محمود الإنشاد بروح جديدة تجمع بين الأصالة والروحانية، وشارك في جولات فنية داخل مصر وخارجها في دول مثل فرنسا وسويسرا والولايات المتحدة، كما ساهم بصوته في الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام مثل ألوان السما السابعة.
من أبرز أعماله أناشيد مثل “يبكي ويضحك” و”تجليت في الأشياء”، التي عرّفته إلى جمهور واسع وأكدت مكانته كأحد أهم المنشدين الذين نقلوا التراث الصوفي المصري إلى العالم.
الإنشاد الصوفي والموسيقى الحديثة
رغم جذوره التقليدية، ظلّ الإنشاد الصوفي مصدرًا غنيًا للتجديد والتجريب، ففي السنوات الأخيرة، ظهر في تعاونات مع موسيقى الجاز والفيوجن وحتى الموسيقى الإلكترونية، فقد اندمجت أصوات كبار المنشدين مع فرق عالمية في مهرجانات موسيقية عالمية، كما استُخدمت عينات صوتية من إنشاد أحمد التوني أو ياسين التهامي في أعمال غربية معاصرة، ما يؤكد أن الإنشاد ليس مجرد تراث محفوظ، بل فن حيّ يتجدد مع الأزمنة.
من المحلية إلى العالمية
نجح المنشدون الصوفيون في الصعيد في الحفاظ على أصالتهم، وفي الوقت ذاته إيصال موسيقى روحانية قادرة على ملامسة أي مستمع مهما كانت لغته أو ثقافته. أصواتهم لم تكن فناً فحسب، بل رسائل حب وسلام عبرت من ساحات الموالد في أسيوط وقنا وأسوان إلى مسارح باريس ومدريد وبرلين.
من قلب الصعيد، خرجت أصوات تحمل همس الذكر وحرارة الموال، أصوات لم تحتج إلى آلات ضخمة أو قاعات فخمة كي تصل إلى القلوب. الإنشاد الصوفي المصري ليس مجرد موسيقى، بل رحلة روحانية تتجاوز حدود المكان والزمان، وتؤكد أن الفن الصادق لا يعرف القيود.
- Previous Article The Designers Behind the GEM Inauguration Break Down Their Process
- Next Article Bonat Secures $6M Series A to Expand Across GCC














